هل يُوحَّد الشرق ضد الغرب في أوكرانيا؟
في رسائل إلى إنجلز، تراجع عنها بسرعة، اعتقد ماركس أن ثمة جانباً تمدينياً وموضوعياً في حملات الرأسمالية الاستعمارية الغربية على الشرق. فالغرب، وهو يستعمر الشرق بصورة رأسمالية، مجبَر على إجراء تحولات في التركيبة الاقتصادية – الاجتماعية القديمة، لكنه، أي ماركس، سرعان ما اكتشف خطأ قراءاته المتعجلة. فنمط التبعية الاقتصادية لم ولا يشترط مثل هذه التحولات وانعكاسها في بنى فوقية، اجتماعية وثقافية.
بل إن الاستعمار الأنغلو – سكسوني، على وجه الخصوص، كان ينهب الشرق ويمنعه من تشكيل نفسه على غرار الغرب، وهو الأمر الذي كرّسه شاعر الإمبريالية البريطانية، كيبلنغ، في قوله: “الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا”. وبالمثل ما حدث مع محمد علي في مصر، عندما حاول “رسملة” مصر وبلاد الشام بعد توحيدهما عسكرياً وبناء دولة على غرار دولة وستفاليا القومية البرجوازية في أوروبا، إذ تكالب ضده في مؤتمر لندن عام 1840، وبتمويل اليهودي روتشيلد، تحالف استعماري كبير ضم بريطانيا والنمسا – المجر وروسيا القيصرية، وأجبره على فك حصار الجيوش المصرية لإسطنبول، والكفّ عن فكرة نقل المركز الإسلامي من إسطنبول العثمانية إلى القاهرة العربية.
وستمضي عقود طويلة خلطت الأوراق من جديد واخترقت مفهوم الشرق والغرب في مقاربات متباينة، ليبرالية واشتراكية، قبل أن تعود معادلة الشرق والغرب إلى سابق عهدها، في مرجعيات وجغرافيات وأيديولوجيات متباينة، مثل السلافية الأرثوذكسية وخصوصاً في روسيا، والاشتراكية في أميركا اللاتينية، وعدد من مناطق الجنوب العالمي، والكونفوشية الصينية، وموجات من الإسلام المناهض للإمبريالية (مهاتير محمد في ماليزيا وإيران).
تجلى ذلك بسرعة مع الانهيار السوفياتي ومبادرة أقلام الاستخبارات المذكورة لإنتاج نظريات سياسية وتسويقها، منها نظرية صراع الحضارات للأميركي هنتنغتون مع استثناء داخلها للانبعاث العثماني وفروعه وتحالفاته.
وليس بلا معنى تزامن صعود أفكار هنتنغتون مع أفكار بريجنسكي وبرنار لويس، وخصوصاً في عهد كارتر.
فيما يخص هنتنغتون، خريج جامعة الجواسيس ييل، والأستاذ في جامعتي هارفارد وكولومبيا، فلقد جمعته مع بريجنسكي عضوية مجلس الأمن القومي الأميركي، بحيث تُطبخ استراتيجيات النهب والقتل والكذب والهيمنة الأميركية تحت سقف فلسفة السوق والفردانية، وكان أشهر كتبه “صراع الحضارات”، بالإضافة إلى أعمال أخرى، بعضها سابق على هذا الكتاب، مثل “الجندي والدولة”، وبعضها لاحق له، مثل “من نحن – تحديات الهوية الأميركية”.
في “صراع الحضارات”، الذي أصدره عام 1993 بعد الانهيار السوفياتي، لم تعد الأيديولوجيات العابرة للقوميات، كما يقول، عنصرا أساسياً في مقاربة مختلف الصراعات، بل الثقافات والحضارات في جرعتها المركّبة، القومية – المذهبية الدينية، والتي تتجلى على نحو واضح في خليط من الاستشراق العنصري، القديم والجديد؛ الاستعمار التقليدي والإمبريالية المعاصرة؛ الغرب في مقابل الشرق، وتحديدا الغرب الأنغلو – سكسوني، البريطاني والأميركي، وامتداداته في أستراليا وكندا ونيوزلندا، كما في طابعه الديني البروتستانتي، في مقابل الشرق، وهي الصيغة التي تستند إلى التوراة، الشعب المختار في مقابل الغوييم أو الأغيار:
– روسيا السلافية الأرثوذكسية، كما تُطرح اليوم من جانب بوتين والمنظّر الأوراسي، ألكسندر دوغين، وفي الخلفية الروائي الروسي الشهير، دوستويفسكي، ولاسيما في روايته “الشياطين”، وعمله المكرس ضد اليهودية في روسيا، “دفاتر السجن”.
– الصين الكونفوشية.
اقرأ أيضاً : أوكرانيا… هل يفعلها بوتين ويستخدم النووي؟
– الإسلام الذي لم يتعايش مع المصالح الأنغلو -سكسونية في مقابل نمط مذهبي آخر من الإسلام وُلد أصلاً في قلم الاستخبارات في شركة الهند الشرقية البريطانية، أي الحركة الوهابية باعترافات همفر وبيركهارت المتأسلم باسم عبد الله اللوزاني، وهو النمط الذي تواصل عبر باكستان انتقاماً من حركة الاستقلال الهندية، وكان من عناوينه اليهودي المتأسلم، محمد أسد (ليوبولد فايس) ثم إسلام الاستخبارات الأميركية والانبعاث العثماني ومهندسيه اليهود: لويس، شتراوس، نوح فيلمان، بينارد وغيرهم.
عبر التدقيق أكثر في الخريطة العنصرية – الجغرافية المذكورة، نجد أنها لم تكن بعيدة عن أفكار بريجنسكي، شريك هنتنغتون في مجلس الأمن القومي الأميركي، كما مّر معنا، بحيث استعار بريجنسكي نظريات الجغرافيين الكبار، راتزل، ماكندر، سبيكمان، واشتق منها قراءاته لإدارة الصراعات الحديثة في مواجهة القوى السياسية ذاتها التي تحدث عنها هنتنغتون: الصين الكونفوشية، وروسيا السلافية الأرثوذكسية. فالأولى باتت تشكل المنافس الأعظم للإمبريالية الأنغلو – سكسونية عبر طريقي الحرير واللؤلؤة، والثانية عبر الأوراسية، التي من يسيطر على قلبها، “الهارت لاند” الروسي، يسيطر على العالم كله. وهو ما يستدعي، بحسب بريجنسكي، تطويق هذا “الهارت لاند” عبر أوكرانيا وكازاخستان وأوزبكستان.
إلى ذلك، سنلحظ ابتداءً من عام 2014، الذي سيطرت فيه الأقلية اليهودية الأوليغارشية مع بقايا النازية على الحكم في أوكرانيا، حملة مبرمجة مشبوهة لشق القوى الشرقية ودفعها إلى مواجهة بعضها البعض.
ومن ذلك، المنابر التي تمولها السفارات الأطلسية ومحميات النفط والغاز المسال في أكثر من بلد، بل إنه، في وقت واحد تقريباً، وبالتوازي مع الانقلاب الأوكراني قبل سنوات، تم نشر مئات المقالات، بما في ذلك في مواقع إلكترونية لبنانية وأخرى تابعة للمعارضة السورية، التي تغافلت تماماً عن الدور الملموس للإمبريالية الأنغلو – سكسونية، وراحت تتحدث عن المخاطر الروسية والصينية، وما سمَّته التاريخ المناهض للمسلمين في روسيا وللإيغور في الصين.
من المؤسف حقاً أن توظيف بيئة مذهبية إسلامية بعينها، في مركزها العثماني الجديد وأطرافه من الشارع الإخواني ومحمية الغاز المسال وفضائيتها، كان الأكثر استجابة للتحريض المذكور.
في المحصّلة، فإن أفكار هنتنغتون تستدعي التمعن حقا في البعد الجيوبولوتيكي للصراع العالمي، والذي قلّلت أيديولوجيات القرن العشرين من شأنه، من دون إطلاق مقاربات عامة. فالشرق والغرب مثقلان بالتناقضات الداخلية، ولاسيما في بعدها الطبقي وتعبيراته الثقافية والأيديولوجية.
فالمقصود هنا هو توسيع المصالح المشتركة للقوى الشرقية، التي تجمعها قواسم مشتركة، وتحرص على سيادتها واستقلالها، ولاسيما إذا تذكّرنا التعديلات التي أجراها ماكندر على نظريته (قلبين للعالم الرأسمالي،) بدلاً من “الهارت لاند” الروسي وحده، وهما روسيا والمحيط الصيني من جهة، والشرق الأوسط من جهة أخرى.
اقرأ أيضاً : طرائق غيبلس الدعائية وأحداث أوكرانيا